فصل: سنة سبع وثمانين ومائة وألف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» (نسخة منقحة)



.سنة سبع وثمانين ومائة وألف:

فيها تواترت الأخبار والإرجافات بمجيء علي بك من البلاد الشامية بجنود الشام وأولاد الظاهر عمر، فتهيأ محمد بك للقائه وبرز خيامه إلى جهة العادلية ونصب الصيوان الكبير هناك، وهو صيوان صالح بك وهو في غاية العظم والاتساع والعلو والارتفاع، وجميعه بدوائره من جوخ صاية وبطانته بالأطلس الأحمر وطلائعه وعساكره من نحاس أصفر مموه بالذهب. فأقام يومين حتى تكامل خروج العسكر ووصل الخبر بوصول علي بك بجنوده إلى الصالحية، فارتحل محمد بك في خامس شهر صفر فالتقيا بالصالحية وتحاربا، فكانت الهزيمة على علي بك وأصابته جراحة في وجهه، فسقط عن جواده فاحتاطوا به وحملوه إلى مخيم محمد بك وخرج إليه وتلقاء وقبل يده وحمله من تحت إبطه، حتى أجلسه بصيوانه. وقتل علي بك الطنطاوي وسليمان كتخدا وعمر جاويش وغيرهم، وذلك يوم الجمعة ثامن شهر صفر، ووصل خبر ذلك إلى مصر في صبح يوم السبت، وحضروا إلى مصر وأنزل محمد بك أستاذه في منزله الكائن بالأزبكية بدرب عبد الحق، وأجرى عليه الأطباء لمداواة جراحاته.
وفي خامس عشر صفر وصل الحجاج ودخلوا إلى مصر وأمير الحاج إبراهيم بك محمد.
وفي تلك الليلة توفي الأمير علي بك وذلك بعد وصوله بسبعة أيام، قيل أنه سم في جراحاته فغسل وكفن ودفنوه عند أسلافه بالقرافة.
وفي سابع عشر ربيع الأول، وصل الوزير خليل باشا والي مصر واطلع إلى القلعة في موكب عظيم، وذلك يوم الخميس تاسع عشرة، وضربوا له مدافع وشنكا من الأبراج. وكان وصوله من طريق دمياط فعمل الديوان وخلع الخلع.
ومات في هذه السنة الشيخ الإمام الصالح العلامة المفيد الشيخ أحمد ابن الشيخ شهاب الدين أحمد بن الحسن الجوهري الخالدي الشافعي، ولد بمصر سنة 1132، وبها نشأ وسمع الكثير من والده ومن شيخ الكل الشهاب الملوى وآخرين. وتصدر في حياة أبيه للتدريس وحج معه، وجاور سنة، وكان إنساناً حسناً ذا مودة وبر وشهامة ومروءة تامة وأخلاق لطيفة. توفي بعد أن تعلل أياماً في حادي عشرى ربيع الأول، وصلي عليه بالجامع الأزهر بمشهد حافل ودفن مع والده بالزاوية القادرية بدرب شمس الدولة.
ومات المبجل المفضل الإمام العارف صاحب المعرف علي بن محمد بن القطب الكامل السيد محمد مراد الحسيني البخاري الأصل الدمشقي الحنفي ويعرف بالمرادي نسبة لجده المذكور ولد بدمشق، وأخذ عن أبيه وغيره من العلماء كعلي بن صادق الداغستاني وغيره، وكان إنساناً عظيم الشأن ساطع البرهان طيب الأعراق كريم الأخلاق، منزله مأوى القاصدين ومحط رجال الواردين، وهو والد خليل أفندي المفتي بدمشق نزل عنده السيد العيدروس فأكرمه وبره ولم يزل حتى توفي في هذه السنة. وتوفي بعده بشهرين أيضاً أخوه حسين أفندي المرادي رحمهما الله.
ومات الماهر الأديب الشاعر الكاتب المنشئ الشيخ إبراهيم بن محمد سعيد بن جعفر الحسني الإدريسي المنوفي المكي الشافعي، ولد في آخر القرن الحادي عشر بمكة وأخذ عن كبار العلماء كالبصري والنخلي وتاج الدين القلعي والعجمي، ثم من الطقة التي تليه مثل علي السخاوي وابن عقيلة في آخرين من الواردين على الحرمين من آفاق البلاد، وأعلى ما عنده إجازة الشيخ إبراهيم الكوراني له، وله شعر نفيس وقد جمع في ديوان وبينه وبين السيد جعفر البيثي والسيد العيدروس مخاطبات ومحاورات، ودخلل الهند بسفارة صاحب مكة فأكرم وعاد إلى مكة، وولي كتابة السر لملكها، وكان يكاتب رجال الدولة على لسانه على اختلاف طبقاتهم، وكان قلمه كلسانه سيالاً وربما شرع في كتابة سورة من القرآن وهو يتلو سورة أخرى بقدرها، فلا يغلط في كتابته ولا في قراءته حتى تتما معاً، وهذا من أعجب ما سمعت. وكان له مهارة ومعرفة في علم الطب، وأما إنشاءاته فإليها المنتهي في العذوبة وتناسب القوافي. وأما في نظمه فهو فريد عصر لا يجاريه فيه مجار ولا يطاوله مطاول.
ومات البارع المقرئ المجود المحدث الشيخ عبد القادر بن خليل بن عبد الله الرومي الأصل المدني، المعروف بكدك زاده، ولد بالمدينة سنة 1140 وبها نشأ وحفظ القرآن وجوده على شيخ القراء شمس الدين محمد السجاعي نزيل المدينة تلميذ البقري الكبير، وحفظ الشاطبية واشتغل بالعلم على علماء بلده والواردين عليه، سمع أكثر كتب الحديث على الشيخين ابن الطيب ومحمد حياة بقراءته عليهما في الأكثر، ولازم الشيخ ابن الطيب ملازمة كلية حتى صار معيداً لدروسه وكان حسن النغمة طيب الأداء ولي الخطابة والإمامة بالروضة المطهرة، وكان ذا تقدم إلى المحراب في الصلوات الجهرية تزدحم عليه الخلق لسماع القرآن منه، ثم ورد إلى مصر فأدرك الشيخ المعمر داود بن سليمان الخربتاوي، فتلقى منه أشياء وأجازه وذلك في سنة 1168، وحضر الشيخ الملوي والجوهري والحنفي والبليدي وحمل عنهم الكثير وتزوج ثم توجه إلى الروم، ثم عاد إلى المدينة فلم يقر له بها قرار، ثم أتى إلى مصر ودار على الشيوخ البقية ثانياً وأخذ عنهم، وأحبه السيد إسمعيل بن مصطفى الكماخي وصار يجلس عنده أياماً في منزله الملاصق لجامع قوصون، فشرع في أخذ خطابته له، فاشترى له الوظيفة فخطب به على طريقة المدينة وازدحمت عليه الناس وراج أمره وتزوج ثم توجه إلى الروم، وباع الوظيفة وانخلع عما كان عليه، وجلس هناك مدة، وسمع السلطان قراءته في بعض المواضع في حالة التبديل فأحب أن يكون إماماً لديه، وكاد أن يتم ذلك فأحس إمام السلطان بذلك فدعاه إلى منزله وسقاه شيئاً مما يفسد الصوت حسداً عليه، فلما أحس بذلك خرج فاراً فعاد إلى مصر واشتغل بالحديث، وشرع في عمل المعجم لشيوخه الذين أدركهم في بلده وفي رحلاته إلى البلاد. ودخل حلب فاجتمع بالشيخ أبي المواهب القادري وقرأ عليه شيئاً من الصحيح وأجازه، وأخذ عن السيد المعمر إبراهيم بن محمد الطرابلسي النثيب ومن درويش مصطفى الملقي، ودخل طرابلس الشام وأخذ الإجازة منن الشيخ عبد القادر الشكعاوي، ودخل خادم إحدى قرى الروم فاجتمع بالشيخ المعروف بمفتي خادم ورام أن يسمع منه الآولية فلم يجد عنده إسناداً وإنما هو من أهل المعقول فقط، ورجع إلى مصر فاجتمع بشيخنا السيد مرتضى وتلقى عنه الحديث، واهتم في جمع رجاله، وتمهر في الإسناد وجمع من ذلك شيئاً كثيراً في مسودات بخطه، ثم عاد إلى الحرمين ومنهما إلى أرض اليمن، فاجتمع بمن بقي من الشيوخ وأخذ عنهم ودخل صنعاء ومدح كلاً من الوزير والإمام بقصيدة، فأكرم بها واجتمع على علمائها وتلقى عنهم، وصار بينه وبين الشيخ أحمد قاطن أحد علمائها محاورات، ثم دخل كوكيان فاجتمع على فريد عصره السيد عبد القادر بن أحمد الحسني من بيت الأئمة، ودخل شبام فاجتمع على السيد إبراهيم بن عيسى الحسني واللحية، فاجتمع بها على الشيخ عيسى زريق، وذلك في سنة 1185، وعاد إلى مصر بالفوائد الغزار وبما حمل في طول غيبته من النوادر والأسرار، وفي هذه الخطرات التي ذكرت دخل الصعيد من طريق القصير واجتمع على مشايخ عربان الهوارة ومدحهم بقصائد طنانة وأكرموه، وله ديوان جمع فيه شعره ومدح به الأكابر والأولياء، وكان عنده مسودة بخطه، وهذا قبل أن يسافر إلى الشام والروم واليمن والصعيد، فقد تحصل له في هذه السفرات كلام كثير مفرق لم يلحقه بالديوان، وكان كلما نزل في موضع ينشئ فيه قصيدة غريبة في بابها، وكان يغوص على المعاني بفكرة الثاقب فيستخرجها ويكسوها حلة الألفاظ ويبرزها أعجوبة تلعب بالعقول وتعمل عمل الشمول، فلله دره من بليغ لم يبلغ معاصروه شأوه، ولو أقام في موضع كغيره لاطلع ضياه، ولكنه ألف الغربة وهانت عنده الكربة، فلم ينال بخشن ولا لين، ولم يكترث بصعب ولا هين، وأجازه الشيخ محمد السفاريني إجازة طويلة في خمسة كراريس، فيها فوائد جمة. وللم يزل تتنقل به الأحوال حتى سافر إلى القدس الشريف، فمكث هناك قليلاً وزار المشاهد الكرام ومراقد الأنبياء عليهم السلام، ثم ارتحل إلى نابلس فنزل في دار السيد موسى التميمي وهو إذ ذاك قاضي البلد فأكرمه وآواه واحترمه. ومرض أياماً وانتقل إلى رحمة الله تعالى في سلخ جمادى الثانية منها، ووصل نعيه إلى مصر وكانت معه كتبه وما جمعه في سفره من شعره والعجم الذي جمعه في الشيوخ والأجراء والأماني التي حصلها وضاع ذلك جميعه ولله في خلقه ما أراد.
ومات العمدة الشاب الصالح الشيخ محمد بن حسن الجزايرلي ثم المدني الحنفي الأزهري، ولد بمكة إذ كان والده يتجر بالحرمين في حدود الستين، وقد به إلى مصر فلازم الشيخ حسن المقدسي مفتي الحنفية ملازمة كلية، وانضوى إليه فقرأ عليه المتون الفقهية ودرجه في أدنى زمن إلى معرفة طرق الفتوى، حتى كان معيداً لدروسه وكاتباً لسؤالاته، وربما كتب على الفتوى بأذن شيخه. وفي أثناء ذلك حضر في المعقول على الشيخ الصعيدي والشيخ البيلي والشيخ محمد الأمير وغيرهما من مشايخ الوقت، وحصل طرفاً من العلوم وصارت له الشهرة في الجملة، وأعطاه شيخه تدريس الحديث بالصرغتمشية، فكان في كل جمعة يقرأ فيه البخاري، وزوجه امرأة موسرة لها بيت بالأزبكية. وبعد وفاة شيخه تصدر للأقراء في محله وصار ممن يشار إليه، ولم يزل حتى مات في عنفوان شبابه في هذه السنة، ويقال أن زوجته سمته.
ومات الأمير الكبير علي بك الشهير صاحب الوقائع المذكورة والحوادث المشهورة وهو مملوك إبراهيم كتخدا تابع سليمان جاويش تابع مصطفى كتخدا القازدغلي، تقلد الإمارة والصنجقية بعد موت أستاذه في سنة 1168، وكان قوي المراس شديد الشكيمة عظيم الهمة، لا يرضى لنفسه بدون السلطنة العظمى والرياسة الكبرى، لا يميل لسوى الجد ولا يحب اللهو ولا المزاح ولا الهزل، ويحب معالي الأمور من صغره. واتفق أن بعض ولاة الأمور تشاوروا في تقليده الإمارة فنقل إليهم مجلسهم وذكر له مساعدة فلان وممانعة فلان، فقال: إنا لا أتقلد الإمارة إلا بسيفي لا بمعونة أحد. ولم يزل يرقى في مدارج الصعود حتى عظم شأنه وانتشر صيته ونما ذكره، وكان يلقب بجن علي، ولقب أيضاً ببلوط قبان، وانضم إلى عبد الرحمن كتخدا وأظهر له خلوص المحبة وأغثر هو أيضاً به وظن صحة خلوصه، فركن إليه وعضده وساعده ونوه بشأنه ليقوى به على نظرائه من الاختيارية والمتكلمين. واتفق أنه وقع بين أحمد جاويش المجنون تابعه وبين أهل وجاقه حادثة نقموا عليه فيها وأوجبوا عليه النفي بحسب قوانينهم واصطلاحهم، وأعرضوا الأمر على عبد الرحمن كتخدا أستاذه، فعارض في ذلك ولم يسلم لهم في نفي أحمد جاويش، ورأى ذلك نقصاً في حقه، فتلطف به بعضهم وترجوا في إخراجه ولو إلى ناحية ترسا بالجيزة أياماً قليلة، مراعاة وحرمة للوجاق، فلم يرض وحنق واحتد. فلما كان في اليوم الثاني واجتمع عليه الأمراء والأعيان على عادتهم قال لهم: أيها الأمراء من أنا؟ أجابه الجميع بقولهم: أستاذنا وابن أستاذنا وصاحب ولائنا. قال: إذا أمرت فيكم بأمر تنفذوه وتطيعوه؟ قالوا: نعم. قال: علي بك هذا يكون أميرنا وشيخ بلدنا ومن بعد هذا اليوم يكون الديوان والجمعية بداره، وأنا أول من أطاعه وآخر من عصى عليه. فلم يسعهم إلا قبول ذلك بالسمع والطاعة، وأصبح راكباً إلى بيت علي بك وتول الديوان والجمعية إليه من ذلك اليوم، واستفحل أمره ولم يمض على ذلك إلا مدة يسيرة حتى أخرج أحمد جاويش المذكور وحسن كتخدا الشعراوي وسليمان بك الشابوري كما تقدم ثم غدر به أيضاً، وأخرجه إلى الحجاز من طريق السويس وأرسل معه صالح بك ليوصله إلى ساحل القلزم، فلما شيعه هناك أرسل بنفي صالح بك إلى غزة ثم رد إلى رشيد ومنها ذهب إلى منية ابن خصيب وتحصن بها وجرد عليه المترجم التجاريد، ولم يزل ممتنعاً بها حتى تعصب على المترجم خشداشينه وأخرجوه منفياً إلى النوسات ثم وجهوه إلى السويس بعد قتل حسن بك الأزبكاوي، ثم منها إلى الجهة القبلية بعد قتل عثمان بك الجرجاوي، وانضم إلى صالح بك وتعاقد معه وحضر معه إلى مصر وقتل الرؤساء من أقرانه، ثم غدر بصالح بك أيضاً كما تقدم مجمل ذلك، ثم نفى باقي الأعيان وفرق جمعهم في القرى والبلدان، وتتبعهم خنقاً وقتلاً وأبادهم فرعاً وأصلاً، وأفنى باقيهم بالتشريد، وجلوا عن أوطانهم إلى كل مكان بعيد، واستأصل كبار خشداشينه وقبيلته وأقصى صغارهم عن ساحته وسدته. وأخرب البيوت القديمة وأخرم القوانين الجسيمة والعوائد المرتبة والرواتب التي من سالف الدهر كانت منظمة، وقتل الرجال واستصفى الأموال وحارب كبار العربان والبوادي وعرب الجزيرة والهنادي وأعاظم الشجعان ومقادم البلدان، وشتت شملهم وفرق جمعهم واستكثر من شراء المماليك وجمع العسكر من سائر الأجناس واستخلص بلاد الصعيد وقهر رجالها الصناديد، ولم يزل يمهد لنفسه حتى خلص له ولأتباعه الإقليم المصري من الإسكندرية إلى أسوان، ثم جرد عساكره إلى البلاد الحجازية ونفذ أغراضه بها، ثم التفت إلى البلاد الشامية وتابع إرسال البعوث والسرايا والتجاريد إليها وقتل عظماءها وكبراءها وولاتها، واستولت أتباعه على البلاد الشامية، حتى أنهم أقاموا في حصار يافا أربعة أشهر، حتى ملكوها، وعمر قلاع الإسكندرية ودمياط وحصنها بعساكره ومنع ورود الولاة العثمانيين، وكان يطلع كتب الأخبار والتواريخ وسير الملوك المصرية ويقول لبعض خاصته: إن ملوك مصر مثلنا مماليك الأكراد مثل السلطان بيبرس والسلطان قلاون وأولادهم، وكذلك ملوك الجراكسة وهم مماليك بني قلاون إلى آخرهم كانوا كذلك، وهؤلاء العثمانية أخذوها بالتغلب ونفاق أهلها. وينوه ويشير بمثل هذا القول بما في ضميره وسريرته، ولو لم يخنه مملوكه محمد بك لرد الأمور إلى أصولها، وكان لا يجالس إلا أهل الوقار والحشمة والمسنين مثل محمد أفندي باشا الراقم ومرتضى أغا وأحمد أفندي يجالسونه بالنوبة في أوقات مخصوصة مع غاية التحرز في الخطاب والمسامرة بوجيز القول، وكاتب إنشائه العربي الشيخ محمد الهلباوي الدمنهوري وكاتبه الرومي مصطفى أفندي الأشقر ونعمان أفندي وهو منجمه أيضاً، ويجل من العلماء المرحوم الوالد والشيخ أحمد الدمنهوري والشيخ علي العدوي والشيخ أحمد الحماقي، وكاتبه القبطي المعلم رزق بلغ في أيامه من العظمة ما لم يبلغه قبطي فيما رأينا، ومن مسقاته كرع المعلم إبراهيم الجوهري، وأدرك ما أدركه بعده في أيام محمد بك وأتباعه من بعده، وتتبع المفسدين والذين يتداخلون في القضايا والدعاوى ويتحيلون على إبطال الحقوق بأخذ الرشوات والجعالات، وعاقبهم بالضرب الشديد والإهانة والقتل والنفي إلى البلاد البعيدة. ولم يراع في ذلك أحداً سواء كان متعمماً أو فقيهاً أو قاضياً أو كاتباً أو غير ذلك بمصر أو غيرها من البناذر والقرى، وكذلك المفسدون وقطاع الطريق من العرب وأهل الحوف، ألزم أرباب الأدراك والمقادم بحفظ نواحيهم وما في حوزهم وحدودهم، وعاقب الكبار بجناية الصغار فأمنت السبل وانكفت أولاد الحرام وانكمشوا عن قبائحهم وإيذائهم بحيث أن الشخص كان يسافر بمفرده ليلاً راكباً أو ماشياً ومعه حمل الدراهم والدنانير إلى أي جهة ويبيت في الغيط أو البرية آمناً مطمئناً لا يرى مكروهاً أبداً. وكان عظيم الهيبة اتفق لأناس ماتوا فرقاً من هيبته، وكثيراً من كان تأخذه الرعدة بمجرد المثول بين يديه، فيقول له: هون عليك، ويلاطفه حتى ترجع له نسه ثم يخاطبه فيما طلبه بصدده، وكان صحيح الفراسة شديد الحذق يفهم ملخص الدعوى الطويلة بني المتخاصمين ولا يحتاج في التفيهم إلى ترجمان أو من يقرأ له الصكوك والوثائق، بل يقرأها ويفهم مضمونها ثم يمضيها أو يمزقها. وألبس سراجينه قواويق فتلى بالفاء من جوخ أصفر تمييزاً لهم عن غيرهم من سراجين أمرائه، ولم يزل منفرداً في سلطنة مصر لا يشاركه مشارك في رأيه ولا في أحكامه وأمراؤها وحكامها مماليكه وأتباعه، فلم يقنع بما أعطاه مولاه وخوله من ملك مصر بحريها وقبليها الذي افتخرت به الملوك والفراعنة على غيرها من الملوك، وشرهت نفسه وغرته أمانيه وتطلبت نفسه الزيادة وسعة المملكة، وكلف أمراءه الأسفار وفتح البلاد حتى ضاقت أنفسهم وشموا الحروب والغربة والبعد عن الوطن، فخالف عليه كبير أمرائه محمد بك ورجع بعد فتح البلاد الشامية بدون استئذان منه، واستوحش كل من الآخر فوثب عليه وفر منه إلى الصعيد، وكان ما كان من رجوعه بمن انضم إليه وخامر معه، وكانت الغلبة له على مخدومه، وفر منه إلى الشام، وجند الجنود وقصد العود لمملكته ومحل سيادته فوصل إلى الصالحية. وخرج إليه محمد بك وتلاقيا وأصيب المترجم بجراحة في وجهه وأخذ أسيراً وقتل من قتل من أمرائه ورجع محمد بك وصحبته مخدومه المذكور محمولاً تخت فأنزلوه في داره بدرب عبد الحق، فأقام سبعة أيام ومات والله أعلم بكيفية موته. وكان ذلك في منتصف شهر صفر من السنة. فغسل وكفن وخرجوا بجنازته وصلى عليه بمصلى المؤمنين في مشهد حافل ودفن بتربة أستاذه إبراهيم كتخدا بالقرافة الصغرى بجوار الإمام الشافعي، ومدفنهم مشهور هناك وبواجهته سبيل يعلوه قصر مفتح الجوانب. ومن مآثره العمارة العظيمة بطندتا وهي المسجد الجامع والقبة على مقام سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه، والمكاتب والميضأة الكبيرة والحنفيات وكراسي الراحة المتسعة والمنارتان العظيمتان والسبيل المواجه للقبة والقيسارية العظيمة النافذة من الجهتين وما بها من الحوانيت للتجار، وسميت هناك بالغورية لنزول تجار أهل الغورية بمصر في حوانيتها أيام مواسع الموالد المعتادة لبيع الأقمشة والطرابيش والعصائب، وكان المشد على تلك العمارة المعلم حسن عبد المعطي، وكان من الرجال أصحاب الهمم، وولاه سدانة الضريح عوضاً عن أولاد سعد الخادم لسوء سيرتهم وظلمهم، فنكبهم المترجم وأخذ ما أمكنه أخذه من مالهم وهو شيء كثير وأنفقه في هذه العمارة، ووقف عليها أوقافاً، ورتب بالمسجد عدة من الفقهاء والمدرسين والطلبة والمجاورين، وجعل لهم خبزاً وجرايات وشوربة في كل يوم، وجدد أيضاً قبة الإمام الشافعي رضي الله عنه، وكشف ما عليها من الرصاص القديم من أيام الملك الكامل الأيوبي في القرن الخامس، وقد تشعث وصدئ لطول الزمان، فجدد ما تحته من خشب القبة البالي بغيره من الخشب النقي الحديث، ثم جعلوا عليه صفائح الرصاص المسبوك الجديد المثبت بالمسامير العظيمة، وهو عمل كثير. وجدد نقوش القبة من داخل بالذهب واللازورد والأصباغ وكتب بإفريزها تاريخاً منظوماً صالح أفندي. وهدم أيضاً الميضأة التي كانت من عمارة عبد الرحمن كتخدا وكانت صغيرة مثمنة الأركان ووسعها وعمل عوضها هذه الميضأة الكبيرة وهي مربعة مستطيلة متسعة وبجانبها حنفية وبزابيز يصب منها الماء، وحول الميضأة كراسي راحة بحيضان متسعة تجري مياهها إلى بعضها وماؤها شديد الملوحة. ومن إنشائه أيضاً العمارة العظيمة التي أنشأها بشاطئ النيل ببولاق حيث دكك الحطب تحت ربع الخرنوب، وهي عبارة عن قيسارية عظيمة ببابين يسلك منها من يجري إلى قبلي وبالعكس، وخاناً عظيماً يعلوه مساكن من الجهتين وبخارجه حوانيت وشونة غلال حيث مجرى النيل ومسجد متوسط، فحفروا أساس جميع هذه العمارة حتى بلغوا الماء، ثم بنوا لها خنازير مثل المنارات من الأحجار والدبش والمؤمن وغاصوا بها في ذلك الخندق حتى استقرت على الأرض الصحيحة، ثم ردموا ذلك الخندق المحتوي على تلك الخنازير بالمؤن والأحجار، واستعلوا عليه بعد ذلك بالبناء المحكم بالحجر النحيب، وعقدوا العقود والقواصر والأعمدة والأخشاب المتينة. وكان العمل في سنة خمس وثمانين. ومات المترجم قبل إتمامها وبناء أعاليها. وكانت هذه العمارة من أشام العمائر لأن النيل انحسر بسببها عن ساحل بولاق وبطل تياره، واندفع إلى ناحية انبابة، ولم تزل الأرض تعلو والأتربة تزيد فيما بين زاوية تلك العمارة إلى شون الغلال ويزيد نومها في كل سنة حتى صار لا يركبها الماء إلا في سنين الغرق. ثم فحش الأمر وبنى الناس دوراً وقهاوي في بحرى العمارة وسبحوا إلى جهة قرب الماء مغربين، وألقوا أتربة العمائر وما يحفرونه حول ذلك، واقتدى بهم الترابة وغيرهم ولم يجدوا مانعاً ولا رادعاً، وكلما فعلوا ذلك هرب الماء وضعف جريانه وربت الأرض وعلت وزادت حتى صارت كيماناً تنقبض النفوس من رؤيتها. وتمتلئ المنافس من عجاجها، وخصوصاً في وقت الهجير، بعد أن كانت نزهة للناظرين. ولقد أدركنا فيما قبل ذلك تياراً لنيل يندفع من ناحية بولاق التكرور إلى تلك الجهة ويمر بقوته تحت جدران الدور والوكائل القبلية وساحل الشون ووكالة الأبزار وخضرة البصل وجامع السنانية وربع الخرنوب إلى الجيعانية، وينعطف إلى قصر الحلي والشيخ فرج صيفاً وشتاء ولا يعوقه عائق، ولا يقدر أحد أن يرمي بساحل النيل شيئاً من التراب، فإن اطلع الحاكم على ذلك نكل به أو بخفير تلك الناحية وهذا شيء قد تودع منه ومن أمثاله وآخر من أدركنا فيه هذا الالتفات والتفقد للأمور الجزئية التي يترتب بزيادتها الضرر العام عبد الرحمن أغا مستحفظان، فإنه كان يحذو طريق الحكام السالفين، إلى أن ضعفت شوكته بتآمر الأصاغر وقيد حكمه بعد الإطلاق، وترك هذا الأمر ونسي بموته، وتقليد الأغاشم وتضاعف الحال حتى أن بعض الطرق الموصلة إلى بولاق سدت بتراكم الأتربة التي يلقيها أهل الأطارف خارج الدروب، ولا يجدون من يمنعهم أو يردعهم، وقدرت علو الأرض بسبب هذه العمارة زيادة عن أربع قامات، فإننا كنا نعد درج وكالة الأبزاريين من ناحية البحر عندما كنا ساكنين بها قبل هذه العمارة نيفاً وعشرين درجة، وكذلك سلم قيطون بيت الشيخ عبد الله القمري، وقد غابت جميعها تحت الأرض وغطتها الأتربة ولله عاقبة الأمور. ومن إنشاء المترجم داره المطلة على بركة الأزبكية بدرب عبد الحق التي مات بها، والحوض والساقية والطاحون بجوارها وهي الآن مسكن الست نفيسة. وبالجملة فأخبار المترجم ووقائعه وسيرته لو جمعت من مبدأ أمره إلى آخره لكانت مجلدات، وقد ذكرنا فيما تقدم لمعاً من ذلك بحسب الاقتضاء مما استحضره الذهن القاصر والفكر المشوش الفاتر بتراكم الهموم وكثرة الغموم وتزايد المحن واخطلاط الفتن واختلال الدول وارتفاع السفل، ولعل العود يخضر بعد الذبول ويطلع النجم بعد الأفول، أو يبسم الدهر بعد كشارة أنيابه أو يلحظنا منن نظره المتغابي في أيابه: في القرن الخامس، وقد تشعث وصدئ لطول الزمان، فجدد ما تحته من خشب القبة البالي بغيره من الخشبالنقي الحديث، ثم جعلوا عليه صفائح الرصاص المسبوك الجديد المثبت بالمسامير العظيمة، وهو عمل كثير. وجدد نقوش القبة من داخل بالذهب واللازورد والأصباغ وكتب بإفريزها تاريخاً منظوماً صالح أفندي. وهدم أيضاً الميضأة التي كانت من عمارة عبد الرحمن كتخدا وكانت صغيرة مثمنة الأركان ووسعها وعمل عوضها هذه الميضأة الكبيرة وهي مربعة مستطيلة متسعة وبجانبها حنفية وبزابيز يصب منها الماء، وحول الميضأة كراسي راحة بحيضان متسعة تجري مياهها إلى بعضها وماؤها شديد الملوحة. ومن إنشائه أيضاً العمارة العظيمة التي أنشأها بشاطئ النيل ببولاق حيث دكك الحطب تحت ربع الخرنوب، وهي عبارة عن قيسارية عظيمة ببابين يسلك منها من يجري إلى قبلي وبالعكس، وخاناً عظيماً يعلوه مساكن من الجهتين وبخارجه حوانيت وشونة غلال حيث مجرى النيل ومسجد متوسط، فحفروا أساس جميع هذه العمارة حتى بلغوا الماء، ثم بنوا لها خنازير مثل المنارات من الأحجار والدبش والمؤمن وغاصوا بها في ذلك الخندق حتى استقرت على الأرض الصحيحة، ثم ردموا ذلك الخندق المحتوي على تلك الخنازير بالمؤن والأحجار، واستعلوا عليه بعد ذلك بالبناء المحكم بالحجر النحيب، وعقدوا العقود والقواصر والأعمدة والأخشاب المتينة. وكان العمل في سنة خمس وثمانين. ومات المترجم قبل إتمامها وبناء أعاليها. وكانت هذه العمارة من أشام العمائر لأن النيل انحسر بسببها عن ساحل بولاق وبطل تياره، واندفع إلى ناحية انبابة، ولم تزل الأرض تعلو والأتربة تزيد فيما بين زاوية تلك العمارة إلى شون الغلال ويزيد نومها في كل سنة حتى صار لا يركبها الماء إلا في سنين الغرق. ثم فحش الأمر وبنى الناس دوراً وقهاوي في بحرى العمارة وسبحوا إلى جهة قرب الماء مغربين، وألقوا أتربة العمائر وما يحفرونه حول ذلك، واقتدى بهم الترابة وغيرهم ولم يجدوا مانعاً ولا رادعاً، وكلما فعلوا ذلك هرب الماء وضعف جريانه وربت الأرض وعلت وزادت حتى صارت كيماناً تنقبض النفوس من رؤيتها. وتمتلئ المنافس من عجاجها، وخصوصاً في وقت الهجير، بعد أن كانت نزهة للناظرين. ولقد أدركنا فيما قبل ذلك تياراً لنيل يندفع من ناحية بولاق التكرور إلى تلك الجهة ويمر بقوته تحت جدران الدور والوكائل القبلية وساحل الشون ووكالة الأبزار وخضرة البصل وجامع السنانية وربع الخرنوب إلى الجيعانية، وينعطف إلى قصر الحلي والشيخ فرج صيفاً وشتاء ولا يعوقه عائق، ولا يقدر أحد أن يرمي بساحل النيل شيئاً من التراب، فإن اطلع الحاكم على ذلك نكل به أو بخفير تلك الناحية وهذا شيء قد تودع منه ومن أمثاله وآخر من أدركنا فيه هذا الالتفات والتفقد للأمور الجزئية التي يترتب بزيادتها الضرر العام عبد الرحمن أغا مستحفظان، فإنه كان يحذو طريق الحكام السالفين، إلى أن ضعفت شوكته بتآمر الأصاغر وقيد حكمه بعد الإطلاق، وترك هذا الأمر ونسي بموته، وتقليد الأغاشم وتضاعف الحال حتى أن بعض الطرق الموصلة إلى بولاق سدت بتراكم الأتربة التي يلقيها أهل الأطارف خارج الدروب، ولا يجدون من يمنعهم أو يردعهم، وقدرت علو الأرض بسبب هذه العمارة زيادة عن أربع قامات، فإننا كنا نعد درج وكالة الأبزاريين من ناحية البحر عندما كنا ساكنين بها قبل هذه العمارة نيفاً وعشرين درجة، وكذلك سلم قيطون بيت الشيخ عبد الله القمري، وقد غابت جميعها تحت الأرض وغطتها الأتربة ولله عاقبة الأمور. ومن إنشاء المترجم داره المطلة على بركة الأزبكية بدرب عبد الحق التي مات بها، والحوض والساقية والطاحون بجوارها وهي الآن مسكن الست نفيسة. وبالجملة فأخبار المترجم ووقائعه وسيرته لو جمعت من مبدأ أمره إلى آخره لكانت مجلدات، وقد ذكرنا فيما تقدم لمعاً من ذلك بحسب الاقتضاء مما استحضره الذهن القاصر والفكر المشوش الفاتر بتراكم الهموم وكثرة الغموم وتزايد المحن واخطلاط الفتن واختلال الدول وارتفاع السفل، ولعل العود يخضر بعد الذبول ويطلع النجم بعد الأفول، أو يبسم الدهر بعد كشارة أنيابه أو يلحظنا منن نظره المتغابي في أيابه:
زمن كأحلام تقضى بعده ** زمن نعلل فيه بالأحلام

ولله في خلقه من قديم الزمان عادة وانتظار الفرج عبادة نسأله انقشاع المصائب وحسن العواقب.
ومات سلطان الزمان السلطان مصطفى بن أحمد خان، تولى السلطنة في سنة 171 فكانت مدة سلطنته ست عشرة سنة، وكانت له عناية ومعرفة بالعلوم الرياضية والنجومية، ويكرم أرباب المعارف. وكان يراسل المرحوم الوالد والشيخ أحمد الدمنهوري ويهاديهما ويرسل إليهما الصلات والكتب، وأرسل مرة إلى الشيخ الوالد ثلاثة كتب مكلفة من خزانته وهي كتاب القهستاني الكبير وفتاوى انقروي ونور العين في إصلاح جامع الفصولين كلاهما في الفقه الحنفي، وله مؤلف في الفن دقيق ينسب إليه. وتولى بعده السلطان عبد الحميد خان جعل الله أيامه سعيدة.
ومات الأمير علي بك الشهير بالطنطاوي وهو من مماليك علي بك المذكور، وكان من الشجعان المعروفين والفرسان المشهورين ولم ينافق على سيده مع المنافقين ولم يمرق مع المارقين، ولم يزل مع مخدومه فيما وجهه إليه حتى قتل بالصالحية بين يديه.
ومات الرئيس المبجل الأمير إسمعيل أفندي الروزنامجي رئيس الكتبة بمصر، وكان إنساناً حسناً منور الوجه والشيبة ضابطاً محرراً خيراً، أصيب بوجع في عينيه، فوعده الحاج سليمان الحكاك بشيء من الكحل وأودعه في ورقة وضعها في طي عمامته، وكان بها ورقة أخرى في شيء من السليماني لم يتذكرها وهو أبيض والكحل أيضاً أبيض، فلما حضر عندما خرج الورقة التي بها السليماني من عمامته وأعطاه له وأمره يكتحل منها وقت النوم، يظنها أنه ورقة الكحل ثم انصرف إلى داره. فلما نزع عمامته وقت النوم رأى ورقة الكحل وتذكر عند ذلك الأخرى، فلم يمكنه الذهاب والتدارك ليلاً لبعد المكان وفوات الوقت والمسكين صلى العشاء واكتحل من الورقة، فزال بصره في الحال واستمر مكفوفاً إلى أن مات سحر ليلة الأحد سادس عشر ذي الحجة من آخر السنة وصلي عليه من الغد بسبيل المؤمنين، ودفن بقبره الذي أعده لنفسه بالقرب من بن أبي جمرة عوضه الله الجنة.
ومات الرجل الصالح الأمير مراد أغا تابع قيطاس بك القطامشي، وكان منجمعاً عن الناس راضياً بحاله قانعاً بمعيشته ملازماً على حضور الجماعة والصلوات في المسجد. توفي يوم الأربعاء سابع عشرين شوال، وصلي عليه بمصلى أيوب بك ودفن بالقرافة عند الطحاوي.
ومات الأمير حسن كتخدا مستحفظان القازدغلي الملقب بقرا، وكان من الأمراء الكبار أصحاب الحل والعقد بمصر في الزمن السابق، وانقطع في بيته عن المقارشة والتداخل في الأمور، وكان مريضاً بمرض الأكلة في فمه، ولذلك تركه علي بك وأهمله حتى مات يوم الثلاثاء ثالث عشر ذي القعدة من السنة عن ذلك المرض، وورم في رجليه أيضاً ودفن في يومه ذلك بالقرافة.
ومات أيضاً مصطفى أفندي الأشقر كاتب ديوان علي بك، خنقه خليل باشا بالقلعة في سابع عشرين جمادى الأولى بموجب مرسوم من الدولة، حضر بطلب رأسه ورأس عبد الله كتخدا ونعمان أفندي ومرتضى أغا فوجد محمد بك أمضى الأمر في عبد الله كتخدا وقطع رأسه في منزله بيد عبد الرحمن أغا، ونعمان أفندي ذهب إلى الحجاز إثر موت علي بك، وكذلك مرتضى أغا اختفى وتغيب وذهب من مصر، ولم يعلم له مكان، واستمر المترجم فطلبه الباشا، فلما حضر إليه أمر بخنقه فخنقوه وسلخوا رأسه ودفنوه بالقرافة، وأخذ موجوداته الباشا إلى الميرى.
ومات الأجل المبجل الضابط الماهر إسمعيل بن عبد الرحمن الرومي الأصل ثم المصرب المكتب الملقب بالوهبي شيخ الخطاطين بمصر، كتب الخط وجوده على شيخ عصره السيد محمد النوري وبرع واجتهد واشتغل قليلاً بالعلم، وكتبي بيده المصاحف مراراً. وأما نسخ الدلائل والأحزاب والأوراد السبعة فمما لا يحصى كثرة، وكان إنساناً حسناً بشوشاً محباً للناس فيه مكارم الأخلاق وطيب النفس، كتب عليه غلاب من بمصر من أهل الكتابة، وكان صاحب نفس وهمة عالية. وكان يلي منصب سيده في الخدمة العسكرية وكتب عدة ألواح كبار وتوجه بها بإشارة بعض أمراء مصر إلى المدينة المنورة. فعلقها في المواجهة الشريفة بيده، ونال بهذه الزيارة الشريفة والخدمة المنيفة سروراً وشرفاً. ولما كانت سنة 1181، أتى الأمر من صاحب الدولة بتوجيه بعض عساكر مصرية تقوية للمجاهدين. فكان هو من جملة المعينين فيهم رئيساً في طائفتهم، فتوجه إلى الإسكندرية، وركب منها إلى الروم، وأبلى في تلك السفر بلاء حسناً. وبعد مدة أذن لهم بالانصراف، فعاد إلى مصر وقد وهنت قواه واعترته الأمراض وزاد شكواه، وهو مع ذلك يكتب ويفيد ويجيز ويعيد ويحضر مجالس أهل الخط على عادته. وجلس ملازماً لفراشه مدة حتى وافاه الحمام ليلة الأحد سادس عشر ذي الحجة، فجهز وصلي عليه بمشهد حافل في مصلى المؤمنين، ودفن عند ابن أبي جمرة قرب العياشي في قبر كان أعده لنفسه منذ مدة، ولم يخلف بعده مثله رحمه الله.